کد مطلب:167900 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:249

تأمل و ملاحظات
مضت فی الجزء الثانی من هذه الدراسة (مع الركب الحسینیّ من المدینة إلی المدینة)، ترجمة موسّعة لشخصیة عبداللّه بن جعفر الطیّار (رض)، ودراسة مفصّلة لموقفه من النهضة الحسینیّة، وقد استوفت تلك الدراسة الاجابة عن جمیع الاسئلة التی یمكن أن تُثار حول هذه الشخصیة الهاشمیّة.

ومع هذا، فإنّ دخول جزء من تحرّك عبداللّه بن جعفر (رض) فی إطار متابعتنا هذه یلزمنا أن نذكّر هنا علی سبیل الاختصار ببعض النقاط المهمّة المتعلّقة بتحرّك عبداللّه بن جعفر (رض):

1) كان عبداللّه بن جعفر (رض) بعد أن علم بعزم الامام علیه السلام علی التوجّه إلی العراق قد كتب رسالة إلیه یناشده فیها عدم التوجّه الی العراق، وقد روی ابن أعثم الكوفی [1] أنّ عبداللّه بن جعفر (رض) قد كتب هذه الرسالة من المدینة إلی الامام علیه السلام فی مكّة، أمّا الطبری فإنه قد روی أنه بعث بها الی الامام علیه السلام بعد خروجه عن مكّة، مع ولدیه محمد وعون، ونصّ الرسالة علی ما فی روایة الطبری: (أما بعدُ، فإنّی أسالك باللّه لما انصرفت حین تنظر فی كتابی، فإنّی مشفق علیك من الوجه الذی توجّه له أن یكون فیه هلاكك، واستئصال أهل بیتك، إنْ هلكت الیوم طُفیء نور الارض، فإنك علم المهتدین ورجاء المؤمنین، [2] فلاتعجل بالسیر


فإنّی فی أثر الكتاب، والسلام). [3] .

ویُلاحظ أنّ متن هذه الرسالة كاشف عن أمور، منها:

أ- الادب الجمّ الذی یتمتع به عبداللّه بن جعفر (رض) فی مخاطبة الامام علیه السلام، الكاشف عن اعتقاده بإمامة الامام علیه السلام، خصوصاً فی قوله علی ما فی روایة الطبری: إنْ هلكت الیومَ طُفیء نور الارض، فإنّك علم المهتدین، ورجاء المؤمنین. أو علی ما فی روایة الفتوح: فإنّك إنْ قُتلتَ أخاف أن یُطفاء نور الارض، وأنت روح الهدی، وأمیرالمؤمنین.

ومن هنا، فإنّ الرسالة التی بعث بها والی مكّة عمرو بن سعید الاشدق إلی الامام علیه السلام بعد خروجه لایمكن أن تكون من إنشاء عبداللّه بن جعفر (رض) كما روی الطبری! ذلك لان هذه الرسالة حوت شیئاً إدّاً من مضامین الجسارة والجهل بمقام الامام علیه السلام، وسوء الادب فی مخاطبته علیه السلام، كما فی قوله: (أسأل اللّه أن یصرفك عمّا یوبقك، وأن یهدیك لما یُرشدك... وإنّی أُعیذك باللّه من الشقاق!)، وهذا مستبعد جدّاً صدوره من إنسان مؤمن بإمامة الامام الحسین علیه السلام، ویراه (نور الارض) و (أمیرالمؤمنین) و (روح الهدی).

بل رسالة الاشدق من إنشائه هو، وذلك: أوّلاً لانها انعكاس تام لنظرة هذا الطاغیة الامویّ المتجبّر، وحاكیة عن لسان الاعلام الامویّ ومفرداته الضالة المضلّة، فالخروج علی النظام الظالم فیها من الموبقات! ومن الشقاق! وسعی فی تفریق كلمة الامّة والجماعة! وما إلی ذلك من أسلحة إعلامیّة لمواجهة كلّ قیام للحق والعدل والاصلاح.

ومن الجدیر بالذكر هنا: أنّ ابن أعثم الكوفی ذكر أنّ عمرو بن سعید هو الذی كتب هذه الرسالة ولیس عبداللّه بن جعفر (رض)، كما ذكر أنّ حاملها إلی


الامام علیه السلام كان یحیی بن سعید وحده، أی لم یكن عبداللّه بن جعفر (رض) معه! [4] .

كما أنّ الشیخ المفید (ره) روی نفس قصة هذه الرسالة كما رواها الطبری لكنّه لم یذكر أنّ عبداللّه بن جعفر (رض) هو الذی كتبها، [5] بل قال: (فكتب إلیه عمرو بن سعید كتاباً...)، [6] فتأمّل!

ب ویستفاد أیضاً من محتوی رسالة عبداللّه بن جعفر (رض) إلی الامام علیه السلام أنّه (یشترك مع ابن عبّاس (رض) وابن الحنفیّة (رض) وغیرهم فی النظرة الی قیام الامام علیه السلام من زاویة النصر أو الانكسار الظاهریین، هذه النظرة التی كانت منطلق مشوراتهم ونصائحهم، وخوفهم أن یُقتل الامام علیه السلام فی الوجهة التی عزم علیها، ولذا فقد كان الامام علیه السلام یجیبهم بأنّ منطقه الذی یتحرّك علی أساسه غیر هذا من خلال الرؤیا التی رأی فیها جدّه (ص)، وأنه مأمور بهذا النوع من التحرّك امتثالاً لامر رسول اللّه (ص).). [7] .

وجدیر بالذكر هنا أنّ الامام علیه السلام كان قد كتب جواباً إلی عبداللّه بن جعفر (رض) قال فیه: (أمّا بعدُ، فإنّ كتابك ورد علیَّ فقرأتهُ وفهمت ما ذكرت، وأُعلمك أنّی قد رأیت جدّی رسول اللّه (ص) فی منامی، فخبّرنی بأمرٍ وأنا ماضٍ له، لی كان أو علیَّ، واللّه یا ابن عمّی لو كنت فی جحر هامّة من هوامّ الارض لاستخرجونی ویقتلونی! واللّه لیعدینّ علیّ كما عدت الیهود علی السبت، والسلام.). [8] .


2) یظهر من أخبار تحرّك عبداللّه بن جعفر (رض) ومن رسالته [9] التی بعث بها الی الامام علیه السلام (أنه كان یعتقد أو یأمل من خلال الوساطة أن تتحقّق المتاركة بین السلطة الامویة وبین الامام علیه السلام إذا انثنی عن القیام والخروج وإنْ لم یبایع!

ولذا فقد ردَّ الامام علیه السلام علی هذا الوهم بأنه ما لمْ یُبایعْ یُقتلْ لامحالة! ولانه لایبایع یزید أبداً فالنتیجة لامحالة هی: (لو كنت فی جحر هامّة من هوامّ الارض لاستخرجونی حتی یقتلونی!..)، وفی هذا ردُّ أیضاً علی تصوّر عبداللّه بن جعفر علی فرض صحة روایة الفتوح بأنّه یستطیع أخذ الامان من الامویین للامام علیه السلام ولماله وأولاده وأهله!). [10] .

إذن، یتضّح لنا ممّا مرَّ أنّ دور عبداللّه بن جعفر (رض) فی المحاولة السلمیة لم یكن انضواءً منه تحت الرایة الامویّة، أو أنّه (رض) كان موالیاً للسلطة الامویّة وممثلاً أو مندوباً عنها، بل كلُّ ما حصل هو أنّ سعیه لتحقیق المتاركة بین السلطة الامویة وبین الامام علیه السلام كان قد توافق مع رغبة السلطة الامویة فی ثنی الامام علیه السلام عن مواصلة التوجّه الی العراق، وإرجاعه مرّة أخری إلی مكّة المكرّمة، من خلال بذل الامان والبرّ والصلة وحسن الجوار، فكان سعی عبداللّه بن جعفر (رض) وسعی السلطة الامویة فی هذا الاطار فی طول واحد لاشیئاً واحداً.

ولذا نجد أنّ عبداللّه بن جعفر (رض) لمّا رأی إصرار الامام علیه السلام علی مواصلة القیام والتوجّه الی العراق، أنهی سعیه لتحقیق المتاركة، وأظهر ولاءه التام للامام علیه السلام حین أمر ولدیه محمّداً وعوناً بالالتحاق به علیه السلام، إذ كان هو معذوراً


لاصابته بالعمی علی ما فی بعض الاثار. [11] .

ویحسنُ هنا فی ختام بحثنا الموجز عن دور عبداللّه بن جعفر (رض) أن نذكر هذه الروایة التی رواها الشیخ المفید (ره)، والكاشفة عن تأییده (رض) لقیام الامام علیه السلام، تقول هذه الروایة: (ودخل بعض موالی عبداللّه بن جعفر بن أ بی طالب (ع) فنعی إلیه إبنیه، فاسترجع، فقال أبوالسلاسل مولی عبداللّه: هذا مالقینا من الحسین بن علیّ!.

فحذفه عبداللّه بن جعفر بنعله، ثمّ قال: یا ابن اللخناء! أللحسین علیه السلام تقول هذا!؟ واللّه لو شهدته لاحببت أن لاأفارقه حتّی أُقتل معه! واللّه إنّه لممّا یسخّی نفسی عنهما ویعزّی عن المصاب بهما أنّهما أصیبا مع أخی وابن عمّی مواسیین له صابرین معه.

ثمّ أقبل علی جلسائه فقال: الحمدُللّه، عزّ علیَّ مصرع الحسین، إنْ لاأكن آسیتُ حسیناً بیدی فقد آساه ولدای.). [12] .


[1] الفتوح، 5:115.

[2] وفي نص الفتوح، فإنّك إنْ قُتلتَ أخاف أن يُطفاء نور الارض، وأنت روح الهدي، وأميرالمؤمنين.

[3] تاريخ الطبري، 3:297؛ والكامل في التاريخ، 2:548؛ والارشاد: 202.

[4] راجع: مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي، 1:312.

[5] وهكذا أيضاً في الكامل في التأريخ، 2:548؛ وفي البداية والنهاية، 8:169.

[6] راجع: الارشاد: 202.

[7] راجع: الجزء الثاني من هذه الدراسة: ص 270، الملاحظة رقم 2.

[8] الفتوح، 5 :115-116.

[9] لقد ورد في رواية الفتوح، 5 :115-116 أن ابن جعفر(رض) قال في آخر رسالته: (.. فلاتعجل بالمسير الي العراق، فإنّي آخذٌ لك الامان من يزيد وجميع بني أميّة، علي نفسك ومالك وولدك وأهل بيتك، والسلام.).

[10] الجزء الثاني من هذه الدراسة: ص 270، الملاحظة رقم 3.

[11] راجع: كتاب (زينب الكبري): 87.

[12] الارشاد: 232؛ والكامل في التاريخ، 2:576؛ والطبري، 3:342.